رن جرس الباب، فنظرت إلى الساعة، و وجدتها تُشير إلى السابعة مساء.
لابد أنه اللبّان...لقد أعتاد أن يأتى فى مثل هذا الوقت طوال السنوات الماضية.
كان شخصاً مسيحياً، محباً، بشوشاً، لا تفارقه الابتسامة،
و هو اعتاد أن لا يأتى من تلقاء نفسه فى أيام الصوم،
لأنه يعرف إننا لن نحتاج إلى اللبن.
المهم، فتحت الباب...."أهلاً بك، إزيك يا عم جرجس؟". "الحمد لله". قالها باقتضاب شديد و بلهجة حادة. صب لى ما أحتاجه من اللبن،
و دخلت لأحضر النقود و أعطيها له و قلت:
"أراك كئيباً على غير العادة ماذا بك؟".
"أبداً واحدة من الزبائن - مدام دميانة - أنتِ تعرفينها،
علبها لى مبلغ كبير من المال، نظير لبن بعته لها طوال الثلاث أشهر الماضية،
و قد انتقلت إلى بيت آخر و لم تترك عنوانها الجديد
و لا يعرف أحد من جيرانها أين ذهبت".
لم أعرف ماذا أقول فتمتمت ببعض الكلمات مثل:
"معلهش....و لا يهمك". كنت أعرف دميانة،
و أراها دائماً مع أولادها الصغار الأربعة. ظروفها المادية كانت صعبة،
و زوجها كان يبحث عن عمل آخر مُجزى. مرت ثلاثة أيام صوم يونان،
لم أرى فيها عم جرجس، و لكن عندما جاء بعد الصوم،
وجدت أن حاله لم يتحسن،
بل بالعكس تحولت الكآبة إلى غضب و عصبية...
فسألته "هل مازلت متأثراً بما حدث؟"
"نعم" لم يهن علىّ أن أرى شخصاً مرحاً، يمتلئ مرارة بسبب موضوع مادى.
فقلت له: "نصحتنى جدتى زمان أنه عندما يأخذ أحداً شيئاً يخُصنى
رغماً عنى،
أعطيه له هدية منى". "ماذا تقصدين؟"
"يجب أن تعطى اللبن هدية منك لدميانة و أولادها،
و تذكر أنه لولاك لما شرب الأطفال لبناً دافئاً فى أشهر الشتاء الباردة".
"و لكن اللبن قيمته حوالى مائة جنيه،
و أنا لم اُعط أحداً من قبل هدية ثمينة كهذه"
"تذكر وصية الرب يسوع، من أخذ الذى لك فلا تُطالبه"
"لا أقدر على تنفيذ هذه الوصية، فهى صعبة جداً" قال هذا و مضى.
عندما جاءنى اليوم التالى...ضحكت معه قائلة:
"إيه أخبار الهدية يا عم جرجس؟" رد: "أحاول و لكنى لا أقدر...فمازلت أُريد نقودى"
. تغيب يومين و عندما رأيته قال لى: "لقد صليت كثيراً ليلة أمس،
و طلبت قوة لتنفيذ الوصية...لقد أعطيتها اللبن هدية منى.
و كم أنا سعيد بهذا" فرحت أنا أيضاً لأنه نفذ الوصية،
و عاد لطبيعته المرحة البشوشة. فى اليوم التالى رأيته يضحك قائلاً لى:
"هل تدرى ماذا حدث أمس بعد أن تركتك؟" "أحكى لى..."
"واحد من زملائى مريض، و طلب منى أن أقوم ببيع اللبن
لزبائنه ريثما يتعافى من مرضه.
و فيما أنا راكب الدراجة سمعت صوتاً يُنادى علىّ...عم جرجس...عم جرجس...
أوقفت الدراجة لأرى صاحبة الصوت، و إذا بها مدام دميانة تجرى خلفى
و تقول و هى تلهث: إزيك يا عم جرجس، أنا آسفة جداً لأننى
نقلت بدون ترك عنوانى الجديد،
أنا مدينة لك بمائة جنيه....صحيح أنا لا أملك المبلغ كله الآن،
و لكن أرجو أن تأخذ عشرين جنيهاً الآن،
و تعود مع بداية كل شهر حتى أسدد الدين كله"
سألته: "و هل أخذت العشرين جنيه"
رد بابتسامة عريصة: "و هل يأخذ أحداً ثمن الهدية"